Saturday, January 12, 2008

الجزيرة .. عندما تتحرك الدولة للدفاع عن هيبتها فقط كتب : مجدي الطيب
المصدر: روزاليوسف
13/1/2008

نظلم فيلم «الجزيرة» كثيراً عندما نربطه بأسطورة إمبراطور النخيلة عزت حنفى، وكأنه مجرد فيلم عن سيرته الذاتية، بينما تؤكد وقائعه ورسالته أن أطروحته أكبر وأهم من أن نحصرها فى مجرم، تضخم نفوذه وزادت سطوته وهيبته بعدما عقد صفقة مع الحكومة يصبح، بمقتضاها، العين الساهرة على مصالحها فى «الجزيرة» المحرمة، ووجد نفسه، بمقتضى الاتفاقية، الآمر الناهى، لكنه تمادى أكثر فرأى أنه «الحكومة» «!» ولحظتها فقط انتفضت الأجهزة الأمنية فى الدولة وأوقعت عليه العقاب، تماماً مثلما فعلت، يوماً، مع «الطبال» الذى عاث فى إمبابة بلطجة وفساداً، ولم يتحرك أحد لردعه واعتقاله إلا عندما نصب نفسه رئيساً لجمهورية إمبابة ! أول رسائل الفيلم تبدو فى اختيار عام 1977 كتاريخ لبدء تفشى ظاهرة انتشار المخدرات، وعقد الصفقات السرية المشبوهة، فى صعيد مصر ؛فهو التاريخ الذى زار فيه الرئيس السادات القدس، فى أول اعتراف علنى من دولة عربية باسرائيل، وماترتب على هذا من اغراق البلاد بالمخدرات، ولم يستغرق «الفلاش باك» طويلاً لكنه كان فرصة لالقاء الضوء على الماضى الملوث، وأيضاً الفرحة الغامرة التى انتابت «على الحفنى» ـ محمود ياسين ـ بانجاب ابنه «منصور» ـ أحمد السقا ـ وبعدها كانت الانتقالة الكبيرة إلى القاهرة 2007 بكل ماحملته السنوات الثلاثين من تحولات ومتغيرات أدت بعصابة مجهولة إلى اعتراض قطار الصعيد وايقافه الأمر الذى كان سبباً فى أن تستشعر الدولة الخطر من منطلق أن «اللى يوقف قطار النهاردة بكره يقلب البلد كلها» وتصدر التعليمات للضابط الصغير «طارق» ـ محمود عبد المغنى ـ للسفر إلى الصعيد للبحث والتدقيق وتحليل الحادث، وهنا يزج المخرج شريف عرفة وكاتب السيناريو محمد دياب بجملة لها مغزاها على ألسنة قادة الداخلية: «مش عاوزين خط الصعيد ولا عزت حنفى تانى''، وهى جملة تنفى الزعم بأن الفيلم يؤرخ للأخير بل استلهام الأساطير التى تحول فيها الخارج على القانون إلى بطل شعبى، وطوال الوقت يضع الفيلم أيدينا على مواطن الخلل فى معالجة قضايانا الأمنية ؛فطوال الوقت هناك أصحاب النفوس الضعيفة، حتى بين ضباط الداخلية، الذين يؤثرون مصالحهم الشخصية الضيقة على أمن وسلامة الوطن، وهو النموذج الذى يمثله العميد «رشدى وهدان» ـ خالد الصاوى ـ الذى يؤمن بسياسة القبضة الحديدية فى معالجة الأمور الأمنية، كاعتقال أحد أفراد الأسرة إلى حين تسليم المتهم الهارب لنفسه، ومهادنة المجرمين فى حال تحولهم إلى مخبرين أو سبب فى تسهيل التربح وابرام الصفقات، حتى لو كانت قطع سلاح أو أطنان مخدرات وأيضاً مواطنين «يشيلوا القضايا المعلقة»، وهو الأسلوب العتيق الذى يؤكد الفيلم امكانية تجاوزه وتغييره على يد الجيل الجديد، الذى يمثله الضابط «طارق»، وتبلغ جرأة الفيلم مداها عندما يطرح قضية أخلاقية غاية فى الأهمية حول قانونية التعامل مع المجرمين والخارجين عن القانون إذا كان فى التعامل معهم مصلحة للدولة «!» وهو الرأى الذى يؤمن به اللواء السابق «فؤاد» ـ عبد الرحمن أبو زهرة ـ ورمز الجيل التالى ـ خالد الصاوى ـ بينما لا يرى الجيل الأحدث الذى يمثله «طارق»، وهو ابن اللواء «فؤاد» فى الفيلم، جدوى من وراء خطوة كهذه، ويعارض هذا التفكير الذى ينم عن فساد وانتهازية، ولا يتردد فى مواجهة والده بأن عليه أن يخشى لحظة الحساب لكن اللواء يؤكد أنه سيقابل ربه بضمير مستريح، ولو عاد به الزمن إلى الوراء ماكان ليبدل طريقة تفكيره، وهو حوار على درجة من الأهمية والجرأة ينضم إلى حوارات أكثر جرأة امتلأ بها فيلم «الجزيرة»، كالحوار بين «على الحفنى» وابنه عندما يصارحه بأنه أوشك على الموت فيعده «منصور» بأن يبنى جامعا ويؤدى فريضة الحج باسمه فيبادره الأب ساخراً: «وتفتكر ده حيخيل عليه؟»، فيعلق الابن منزعجاً: «يعنى مفيش رحمة؟» فيطمئنه الأب بأن القوانين السماوية تختلف عن تلك التى تحكم الأرض، التى تجرم بيع قطعة سلاح لكنها تجعل من تاجر السلاح وزيراً «!» والسخرية من المطالبة بالديمقراطية فى التعامل مع الجماعات الإرهابية، التى تتحمل مسئولية تحويل الوطن إلى بركة من دماء الضحايا والأبرياء، وتفريط الدولة فى حقها عندما تترك الفرصة لأشخاص غير أسوياء ليلعبوا دور البديل لها، وخفة الظل فى قول «منصور» للمطاريد أنه قادر على أن يدخلهم الجنة على الرغم من التعاليم التى تقول أن «القاتل يدخل النار»، والإشارة المفزعة فى قيام الأطفال فى الصعيد بلعب «السيجة» برصاص البنادق والرشاشات، وليس حتى فوارغها، ولا ينبغى النظر إلى مشهد كهذا بأنه قدم على سبيل المبالغة ؛فالأطفال فى بعض المناطق هناك، وكما جاء فى الحوار، قادرون على فك وتركيب السلاح بأفضل مما يفعل المجندون، ويصبح من الطبيعى، فى أجواء كهذه، أن تنتهى لعبة «العسكر والحرامية» بهزيمة العسكر على أيدى «الحرامية''«!» ويواصل الفيلم، بوعى شديد، اطلاق قذائفه الملتهبة ؛فالنائب البرلمانى هو الذى يدير مفاوضات بيع وشراء الأفيون، الذى يزرعه الأهالى كالبرسيم، وهو الذى يقنع البائع بتخفيض السعر قليلاً للمشترى، لكون الطرفين من أبناء دائرته التى يحرص على ألا يفقد أصواتهم الانتخابية، بل يتهمه «الكبير»، وهو اللقب الذى ورثه «منصور الحفنى» عن أبيه مع امبراطورية «الجزيرة»، بأنه موظف يتقاضى راتباً شهرياً منه ومن الأسر ذات النفوذ فى الصعيد «!» فالفيلم ليس له علاقة بما كان يقدم من قبل عن «الصعيد» والذى كان لا يخرج فى العادة عن احتمالين ؛ إما «كارت بوستال» للأقصر بلدنا بلد سواح، أو فجاجة فى الطرح لدرجة تقديم هذا المجتمع كبؤرة للسذج والسفهاء والبلهاء الذين يستحقون التندر منهم والسخرية اللاذعة بالنكات التى تبدأ «مرة واحد صعيدى»، وفى فيلم «الجزيرة» لن تلتقى «صعايدة التليفزيون» مهندمى الملابس ومهذبى الشوارب والسوالف، بل شخصيات واقعية ووجوها أنهكها الفقر تنتظر قطعة لحم يتعطف بها آل الحفنى أو أسر الرحايمة والنجايحة، وعائلات ترضى بأن يذهب رب الأسرة برجليه إلى مصيره المحتوم، باعتقاله أو اعدامه بتهمة ترويج المخدرات، بينما الأباطرة فى أمان برعاية الحكومة وعملائها، فالتقاليد أقوى من القانون، وتبادل المصالح أقوى من العاطفة لذا أجبر «منصور» على الزواج من «فايقة» والتخلى عن حبه «كريمة» بسبب العداوة التاريخية بين العائلتين، واكتفى العاشقان بحب صامت تخترقه أحياناً كلمات غزل لا تقل قسوة عن الجبال المحيطة بهما، وإن اكتست فى كل الأحوال بجمال وعذوبة «الجزيرة» التى ضمتهما وتعاطفت مع حبهما المجهض ؛فكل شىء حقيقى فى فيلم «الجزيرة» حتى فلسفة الأب الحريص على تعليم ابنه ليأخذ من العلم مايخدم تجارته المحرمة ويؤهله للحفاظ على نظام حكمه فى مواجهة المتربصين به، وأن يكون أقرب صديق له على البر الثانى من الجزيرة، فالسرية مطلوبة فى عالم تحفه المخاطر باستمرار، وباستثناء مشاهد جلب السلاح من السودان، بهزليتها وضعفها الإنتاجى، والتجاوز عن عدم احكام اللهجة الصعيدية فى بعض مناطق الفيلم، وحديث المطاريد عن الارهاب بأسلوب أكبر من وعيهم، ولا يتماشى مع واقعهم الذى لا يؤهلهم لترديد مصطلحات مكانها صحف الحكومة واعلامه، يقطر «الجزيرة» بعذوبة وسحر غامض، بعيداً عن مشاهد «الأكشن» بفضل كاميرا أيمن أبو المكارم، التى تحركها رؤية ناضجة وشديدة الوعى للمخرج شريف عرفة، الذى أنضجته السنون بشكل واضح، ولن نتوقف عند توظيفه لجغرافيا المكان أو زراعات القصب، على مستوى الصورة والحوار، بل الجمال فى التقاط صورة عامة للطريق الذى يخترق الزراعات فى لقطة لا نراها سوى فى الأفلام الأمريكية، وسينما الطريق أيضاً، وفى سياق هذه اللغة السينمائية الساحرة جاء ديكور فوزى العوامرى، فى قصر عائلة «الحفنى» وبيت «النجايحة»، وأطلال بيوت «الجزيرة»، وتتبدى موهبة شريف، بحق، فى امتلاكه قدرة غير مسبوقة فى استخراج أفضل ما لدى ممثلى الفيلم، ليس فقط على مستوى أحمد السقا وهند صبرى وخالد الصاوى وزينة، بل فى العين الذكية التى التقطت موهبة متميزة لممثل شاب بدأ يثبت أقدامه اسمه «آسر ياسين»، قام بدور العدو اللدود للسقا وشقيق هند صبرى، وآخر واعد اسمه نضال الشافعى قام بدور الأبكم «فضل» فأعطى درساً بليغاً لأصحاب الألسنة جميعاً، ولا يمكن تفويت فرصة الحديث عن الممثلين دون التوقف عند هند صبرى التى كانت تشع سحراً وابداعاً يملك عليك حواسك ويثير فيه كل شجونك وعذاباتك ؛فهى الفتاة التى أجبرتها الظروف على أن تتنحى عن طريق حبيبها لكنها لا تتنازل عن حبها، وفى إطلالة أخرى تذكرك بنادية لطفى فى «المومياء»، ويعصف بك الشك فى حقيقة أن هذه الممثلة تونسية الأصل، وتجزم بكل ما أوتيت من احساس بأنها ولدت فى الصعيد، وفارقته منذ أعوام، ومع موهبة شريف عرفة تتوقف عند وعيه بالمبررات الدرامية التى تنسف أى تشكيك فى الشخصيات، وتضيف مصداقية على الأحداث، فيورد مع كاتب السيناريو محمد دياب جملة عابرة عن الفترة التى أمضاها «منصور» ضمن صفوف الصاعقة فأعطى مبرراً لأعماله القتالية وبطولاته «السوبرمانية» طوال الأحداث، وانتهاء بمقاومته غير العادية لاقتحام الدولة بكل قواتها وعدتها وعتادها لجزيرته حتى سقوطها، وانهيار حصنها ومقاومته، لكنك تغادر صالة العرض وأنت غير مطمئن للنهاية السعيدة، التى أقنعت فيها «كريمة» حبيبها «منصور» بتسليم نفسه حقناً للدماء، والحفاظ على أرواح الناس، الذين اتخذ منهم قبل قليل دروعاً بشرية، كصدام، لكنه اختار أن تمتزج صفوفها بالأقباط والمسلمين، للتعبير عن ايمانه بالوحدة الوطنية، كما قال بطرافة، وتتساءل: «هل خشى شريف عرفة من موت البطل؟ أم أنه رأى، بفطنته، أن موت «الكبير»، سواء أكان «منصور» أو «الخط» أو امبراطور الدخيلة لا يحل المشكلة، بل يسهم فى تخديرنا وتغييب وعينا.. ولا ينقذ الحكومة وأجهزتها الأمنية من غفلتها، ويحذر من يوم قريب يولد فيه «منصور» جديد؟.. «المعنى فى بطن عرفة».



No comments: