Wednesday, May 7, 2008


حين ميسرة فيلم المتناقضات الذي لا تستطيع أن تقف معه و لا ضده
07/05/2008
المصدر: الاهالى - محمود قاسم

الفيلم الفائز بالجائزة الأول في المهرجان القومي حين ميسرة فيلم المتناقضات الذي لا تستطيع أن تقف معه ولا أن تقف ضده!علي عكس موجة الأفلام السياحية التي تسود منذ سنوات ويدور أغلبها في المنتجعات علي أطراف الوطن دار «حين ميسرة» في أعرق أعماق الوطن ازدحام الأشخاص والأماكن والأزمنة جعلنا نحس أننا في سوبر ماركت حكايات في نهاية الفيلم تجتمع ثلاثة أجيال من عائلة واحدة في مساحة مكانية محدودة هي «القطار» وهو ما لا يمكن حدوثه سوي في الميلودراميات الصادمة في تقديمه لإعلان اسماء الأفلام الفائزة في المهرجان القومي للسينما خاصة الأفلام الروائية قال الناقد سمير فريد رئيس لجنة التحكيم ما معناه أن الأفلام الثلاثة الفائزة تكاد تكون متعادلة في أهميتها وأن اللائحة وحدها هي التي فرضت الترتيب الثلاثي، الذي جاء في حيثيات المنح أي يجب أن يكون هناك الفيلم الأول ثم الثاني والثالث.ولا شك أن لجنة التحكيم هذا العام كانت أسعد حظا من مثيلاتها في الأعوام الماضية، فعدد الأفلام الجيدة التي كانت في المسابقة أكبر من جميع السنوات الأخيرة، وإن كان الاختيار النهائي أمرا ليس سهلا .فالأفلام التي فازت بالجوائز هي في المقام الأول أعمال جدلية، وهناك أفلام أخري لم تفز كانت أيضا من الأعمال التي أثير حولها جدل كبير .. ومنها «هي فوضي» علي سبيل المثال، وقد امتلأت الصفحات الفنية طوال الأشهر الماضية بمقالات وحوارات مهمة حول أهمية هذه الأفلام وحول قضايا ساخنة تناقشها، وإن كان فيلم «حين ميسرة» قد قوبل بآراء حادة من النقاد، فالبعض يراه عملا ميلودراميا فجا، تفوق فيه كاتبه ومخرجه علي مدرسة الفواجع والمصادفات القدرية التي تمتعت بها سينما حسن الإمام الذي كم هاجمه النقاد، ورأي البعض الآخر أن الفيلم قد دخل منطقة سكانية لم تحفل بها السينما كثيرا وهي العشوائيات وأنه قدمها بشكل ملحمي.فيلم المتناقضاتوفي العدد 40 من القاهرة نشرنا مقالا حول الفيلم جمعنا فيه بين الرأيين معا، فأنت أمام عمل فني لا يمكن أن تحتفي به تماما ولا تستطيع أن تقف ضده كلية، ولأن النقد في الكثير من الأحيان أقرب إلي الانطباع الشخصي منه إلي اتباع قواعد علمية، فإن المرء لا يستطيع أمام مثل هذه الأعمال أن يقول إنه فيلم «متميز» أو أنه فيلم غير ذلك .. هو فيلم كالبشر مهما كانت ثقافاتهم وأياً كانت الأماكن التي يعيشون فيها، فكل منا يحمل تناقضاته داخله به دياليكتيته الخاصة، الفكرة ونقيضها ثم المزيج بينهما، لذا لا تستطيع أن تقول إن هذا فيلم «حلو» أو «مش حلو» هو فيلم كالإنسان.لذا تباينت الآراء حوله، وإن كانت هناك نقاط عديدة تجعلنا نقف إلي جواره ، وأيضا هناك ملامح كثيرة تجعلنا نتحفظ علي موضوعه خاصة مسألة النهاية التي جمعت في مساحة مكانية ضيقة ثلاثة أجيال لم يكن لهم أن يتقابلوا في مثل هذه المساحة إلا في نهاية فيلم سينمائي «ميلودرامي» صادم حيث يتواجد ابناء ثلاثة أجيال الاب والام والابن والحفيد داخل القطار أو أعلاه.الفيلم في مضمونه يختلف عن السينما السياحية السائدة في مصر منذ عشر سنوات التي تدور بين الساحل الشمالي والمنتجعات السياحية في أطراف الوطن هو فيلم يدور في أعماق الوطن، بل في بؤرة الأعماق، وقد قرأت في مجلة «أبيض وأسود» عدد شهر مايو الحالي مقالات لا يفرق النقاد فيها بين الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية، ومن هنا يجيء اللغط، فلا شك أن عبقرية المكان هنا تأتي من أنها تكشف عن العلاقة الحميمية بين أخلاق الناس وشكل المكان، فالناس في الأحياء الشعبية يختلفون تماما عن كل هؤلاء الناس في «حين ميسرة» .ولا نستطيع أن نقول إنها المرة الأولي التي صورت فيها السينما المصرية عشوائيات حقيقية، فهناك عشوائيات رومانسية مثلما حدث في «سارق الفرح» لداود عبدالسيد، و«خلي الدماغ صاحي» لمحمد أبو سيف، وهناك عشوائيات فوق السطح العمارات الفخمة مثلما في «السطوح» لحسين عمارة و«عمارة يعقوبيان» لمروان حامد، لكن عشوائيات «حين ميسرة» أكثر ازدحاما وأسوأ أخلاقا، وفي بؤرة تجمع لكل الفاسدين في الأرض أو علي الأقل أرض القاهرة.لا نستطيع أن نقول أن الفقراء جدا، هم وحدهم الذين يسكنون هذه المنطقة التي لم يطلق عليها الفيلم أي تسمية، فهنا يسكن أيضا أغنياء للغاية يمارسون أهدافا سياسية أو عقائدية مستغلين ما يعانيه سكان المنطقة من فقر مدقع وبطالة وتخبط في الحياة.عبقرية سينمائية وعبقرية الفيلم حسب رأيي أنه جعل من الازدحام والالتصاق سمة رئيسية للعلاقات ، فالأشياء ملتصقة ببعضها البشر والغرف والمصائر وهذا النوع من الالتصاق يولد حرارة شديدة وصراخات حادة ويولد ما يسمي بفيروس إنساني في العلاقات، فهناك تزاحم للعثور علي مكان صغير للنوم وعلي فتات قليل لسد البطن، وزنازين السجون هي امتداد طبيعي لأسقف البيوت المصنوعة من الصفيح ، والأشخاص يتصرفون بدون أي حدود للمحارم ، والممنوع، والمسموح، نحن مثلا لا نعرف نوعا من العمل المحدد يذهب إليه أي من أبناء هذه المنطقة كل شيء تقريبا هو «خطف» الفرص مثل اختطاف جنس عابر أو اختطاف سيارة أو علاقة أو خيانة أو لقيمة أو غسيل منشور أو طفل رضيع أو لحظة سحاق أو اغتصاب وما شابه.
مفتاح العلاقات هنا هو «الخطف» وهي علاقات فوق أو بعيدة عما نعرفه في المجتمعات العادية وأولها الأحياء الشعبية التي امتلأت بها قصص الأفلام المصرية القديمة العشوائيات هنا أشبه بالأقبية في السينما الأمريكية، يذهب إليها غير المنتمين لقضاء بعض الوقت، لكن أقبية العشوائيات كما صورها «حين ميسرة» تأتي من أنه ليس هناك مكان بديل لهذه الأماكن الملتصقة، لذا فإن أسرة بأكملها تفضل أن تؤخذ في حملة الشرطة علي المكان بدلا من العيش في مصير مجهول فقد توحدت ربة الأسرة بغرفتها طوال سنوات عديدة ربت الأبناء وزوجتهم وتنتظر عودة كبيرها دون أن تعرف عنه انضمامه لتنظيم القاعدة، فقد حدث توحد بين المرأة وأسرتها من ناحية وبين أسقف الصفيح، هي تدرك تماما أنه لا حياة بعيدا عن هذه المساكن التي صارت تحمل الذكريات المرة والحلوة.الأماكن والأشخاص والأزمنة مزدحمة متلاصقة في حين ميسرة والأزحام يعني أن الكثرة لا تجد لها بيئة متسعة تعيش فيها، فتختار أن تجاور الآخر إلي درجة الالتصاق، وهذه الأماكن هنا فقيرة وتكاد تكون منعدمة الأخلاق، ومن هنا جاء ما يسمي بازدحام الزمن، فأبطال الفيلم لم يختلف أحد منهم طوال خمسة عشر عاما علي الأقل ، ابتداء من عام 1991 يملأون الحياة بالحركة والبحث عن ظل أو فرص للحياة، ولا تكاد تكون هناك بارقة أمل في الفيلم حتي وإن مسح الفيلم علي بعض هذه الشخصيات بصكوك الغفران، فناهد التي صارت عاهرة لا تمتثل للمرأة السحاقية، ولا تمارس السحاق وكأنما العهر هو آخر سقف الأخلاق، وهي أيضا تقاوم الاغتصاب الجماعي بقوة، وقد كشف الفيلم عما يسمي بلا نهائية العلاقة الإنسانية حين تقرر الام التي تبنت ابنا صغيرا وهي عاقر لا تلد حتي إذا أحست بأن جنينا حقيقيا يتحرك في أحشائها تخلصت من ابنها بالتبني وكأنها أيضا تحمل اسوأ ما في أخلاق سكان العشوائيات.سوبر ماركت حكاياتأي أن العشوائية بأخلاقياتها لم تكن فقط من سمات الفقراء الذين يسكنون الأرصفة ويمارسون كل ما لم يتعلموه من أخلاق ، ففي الطبقة الاجتماعية الأرقي هناك شباب زي الورد يغتصبون امرأة، وأم تتخلي عن ربيبها حتي قبل أن تلد وتتأكد من هوية الوليد القادم، وقد انطبق الأمر نفسه علي المرأة السحاقية الميسورة، وأيضا علي ابناء السيدة التي أوت ناهد لبعض الوقت ثم ماتت .وإذا عدنا لمسألة الزمن العشوائي فهو مزدحم بالأحداث السياسية ولا شك أن التغيرات الحادة التي شهدتها المنطقة قد وجدت مكانا لها في الاسكان، وكما اشرنا فقد أفرز هذا عن الجيل الثالث الذي صنع التوربيني صائد أبناء الأرصفة فوق أسطح القطارات.لقد حاول الفيلم أن يلملم كل ما قرأه كاتب السيناريو ناصر عبدالرحمن عن العشوائيات انتهاء بظاهرة التوربيني فوق القطارات، وفي مقالي حول الفيلم السابق الإشارة إليه ، قلت إن درجة الازدحام بين الأشخاص والأمكنة والأزمنة تجعلك تتصور أنك في سوبر ماركت حكايات تعرض عليك بعض البضائع علي طريقة «اشتري قطعة وخذ أخري هدية» ورغم ذلك فإن إحدي سمات التميز في الفيلم هي أن هناك ما يسمي بالتجذر لأغلب شخصيات الفيلم فنحن نعرف لكل منهم جذواًر.ابتداء من عادل الذي يعيش مع أمه وأخوته في أجواء أسرية إلي ناهد التي تلجأ بين الحين والآخر إلي أمها في بنها، ورغم محاولات زوج الأم لمسها جنسيا، فإنها كلما ضاقت بها ضائقة تعود إلي هذا البيت أو إلي المنطقة العشوائية التي يسكنها عادل للتماس الماضي ما كانت تأمل فيه خيرا، ولا شك أن المتفرج يعرف جذور الطفل الذي صار من أبناء الشوارع وهو الذي اقترن بزميلته فانجبا طفلا لم يصبح مثلهما بلا هوية، بل راح يدافع عن زوجته وابنه فوق سطح القطار.اعتقد في نهاية حديثي عن الفيلم أنه كان أمام لجنة التحكيم خيار صعب وكان يمكن أن تكون الجائزة مناصفة في أحسن سيناريو بين ناصر عبدالرحمن ووسام سليمان.
المصدر : الأهالى - محمود قاسم

No comments: