Saturday, May 24, 2008

حين ميسرة: فيلم عشوائى عن بيئة عشوائية

تقرير العربية.نت السينمائي الأسبوعي
24/5/2008

دبي – حكم البابا
يخصص تقرير العربية.نت السينمائي مادته الرئيسة هذا الأسبوع للفيلم المصري "حين ميسرة".. سيناريو وحوار ناصر عبد الرحمن، وإخراج خالد يوسف، الذي يقدم خلطة غرائبية تمزج التصوير القاسي لمجتمع الأحياء العشوائية في مصر، بعلاقة دلالية غير موفقة مع أوضاع العراق خلال مرحلة التحضير وحتى لحظة إعلان احتلاله وسقوط بغداد، بالميلودراما المصرية السينمائية التقليدية، بقصص الإرهاب التي تحولت إلى موضة في السينما بعد السياسة، لتنتج في النهاية فيلماً مشوشاً ومفتعلاً ومثيراً للشفقة.

حين ميسرة: فيلم عشوائي عن بيئة عشوائية!
حتى ما قبل مشاهدتي لفيلم "حين ميسرة" الأسبوع الماضي كنت أظن (وبحسب ما سمعته وقرأته من أخبار وتصريحات وفتاوى تفاوتت بين من اكتفى باعتباره فيلماً ملعوناً ومخلاً بالآداب يصور مشاهد سحاق فاضحة، وبين من رفع سقف الهجوم عليه إلى حد اتهامه بالإساءة لسمعة مصر)، أن الفيلم إشكالي من النوع الذي لا تتقبله العقليات المغلقة التي تريد تحويل العمل الفني إما إلى درس وعظي في الأخلاق، أو إلى وقوف بوضعية الاستعداد وراحة اليد قرب الرأس بما يشبه تحية العلم، ولكن بعد مشاهدتي لـ"حين ميسرة" وجدت أنه لا يستحق كل تلك الضجة التي أثيرت حوله، ولا صرخات مثل يا غيرة الدين ويا غيرة الأخلاق ونموت وتحيا مصر، التي أطلقها ساسة وفنانون ورجال دين ضده باعتباره ساحة جديدة من ساحات الجهاد المفتوحة في العالم العربي، فالفيلم في شكله العام ليس أكثر من عمل فني رديء المستوى، ومشوش البنية، ومسيء لصاحبه أكثر مما هو مسيء للدين أو للأخلاق أو لسمعة مصر.ورغم استيائي الشديد من البنية الدرامية المرتبكة لـ"حين ميسرة"، ومحاولة مخرجه خالد يوسف حشر مجموعة كبيرة من الأفكار والقضايا التي أراد التعبير عنها في فيلم واحد في خلطة أهم ما يميزها السذاجة وأكثر ما ينقصها الثقافة وأقل ما يمكن أن توصف به غياب الرؤيا، فإن من المعيب فعلاً استخدام أساليب محاكم تفتيش القرون الوسطى من التكفير إلى التخوين لمحاكمة عمل فني في عصر السماوات المفتوحة، ومن المعيب أكثر انتقال حالة التجييش القطيعي العامية إلى أوساط النخبة بهدف إثارة المشاعر الدينية والأخلاقية والوطنية لإقامة الحد على عمل فني، واستخدام مشهد صغير يجمع امرأتين بما يوحي بحالة شذوذ جنسي بينهما -سواء اتفقنا أو اختلفنا مع وظيفته الدرامية- أو تصوير قاس لرثاثة مجتمع سكان العشوائيات في مصر للحكم على الفيلم.في "حين ميسرة" يحاول خالد يوسف رصد التحولات العميقة التي حدثت للمجتمع المصري المعاصر، في انتقاله من مجتمع مديني إلى هامشي، ويختصره بصورة حي عشوائي، يعيش سكانه على هامش الحياة، وتربطهم ببعضهم البعض علاقات الغزو في شتى نواحي الحياة، وبما يختلف كلياً عن الصورة التقليدية التي طالما قدمتها السينما المصرية للحارة المصرية المحكومة بقيم أولاد البلد وعلاقات "الجدعنة"، فيقدم التفسخ الأسري والتهتك الجنسي وحالة البطالة والكسب بقوة الذراع وغزوات الكر والفر بين المجتمع والسلطة في حدها الأقصى، وبدون روتوش، لكن خالد يوسف، وعبر مبالغته في تصوير قسوة هذا الواقع في محاولة لتشريح مشكلاته، ورغبته في حشر كل الأفكار والرؤى التي دارت في رأسه خلال ساعتين فقط -هي مدة الفيلم- يقع في عدة أفخاخ قاتلة؛ أهمها البنية المهلهلة للفيلم الذي يضيع ويتشتت بين عدة قصص وحكايات يغيب عن بعضها المبرر الدرامي اللازم، كقصة المجموعات الإرهابية على سبيل المثال، التي تظهر فجأة ومن دون مقدمات منطقية في الجزء الأخير من الفيلم، وربطها مع تنظيم القاعدة عبر قصة فيها الكثير من الفبركة والافتعال من خلال شخصية أحد أبناء الحي الغائب في العراق بهدف العمل وكسب الرزق، والذي يصبح فجأة -ومن دون سبب إلاّ رغبة المخرج في إثبات أن الفقر والإهمال أحد أسباب الإرهاب- زعيماً من زعماء القاعدة.وبمثل هذه "المباشرية" البغيضة في الفن يمر خالد يوسف على عدد من القضايا التي يصلح كل منها موضوعاً متكاملاً لفيلم سينمائي، من قصة الفتاة الهاربة من تحرشات زوج أمها لتتحول فيما بعد إلى مومس وراقصة، بما يذكر بموضوعات الميلودراما التقليدية المصرية، إلى قصص أطفال الشوارع الهامشيين المشردين وزواج السفاح المفتعل في أوساطهم، إلى حالات الفساد الحكومي التي يستخدم فيها الرق الأبيض كرشاوى، قضايا تجارة المخدرات وتعاطيها والعاملين بها، في محاولة لصنع بانوراما قاتمة السواد للمجتمع المصري، أهم ما يحرك أحداثها المصادفات "الغرائبية"، التي يفترضها المخرج ويصدقها ويبني عليها تطور حدث فيلمه الدرامي.وعلى عكس هذه البنية الكاملة المهلهلة للفيلم الذي يزاوج فيه المخرج بين حادثة احتلال العراق كمعادل عام لحدث الانتهاك والاغتصاب الخاص الذي يحدث لشخصيات الفيلم في مقاربة وربط غير موفقين، تظهر حرفية خالد يوسف سواء في بناء مشهد غني وديناميكي، أو في إدارة ممثلين يقدمون أداءً مميزاً في العديد من أدوار الفيلم أكثرهم حضوراً هالة فاخر وعمرو سعد وعمرو عبد الجليل، في وقت ظهرت سمية الخشاب بدور البطولة النسائية كما لو أنها تكرر أداء شخصية استهلكتها السينما المصرية من دون أن تضيف إليها بصمة خاصة، ولضيق مساحة الشخصيات التي أداها أحمد بدير وغادة عبد الرازق ووفاء عامر وخالد صالح وفقر ملامحها، بدا أداء هؤلاء أقرب إلى التواجد منه إلى التمثيل.أخيراً مشكلات فيلم "حين ميسرة" كثيرة من وجهة نظري، وليس من بينها تصوير مشهد السحاق أو تهمة الإساءة لسمعة مصر، فكل ما صوره الفيلم حدث ويحدث في الواقع مصرياً وعربياً، ولكن البناء الدرامي الرديء للفيلم وارتباك المخرج أمام الكم الكبير من الأفكار التي أراد التعبير عنها، من دون أن يجد لها المعادلة الفنية اللازمة لتحويلها من جلسة تداول في الشأن العام على طاولة مقهى إلى فيلم سينمائي، هو الذي أظهره بصورة عمل يروج للرخص الأخلاقي أو يسيء لسمعة مصر

No comments: