19/08/2008
حقق المعادلة التي يقولون إنها صعبة
فاتن محمد علي
تحية لصناع فيلم (آسف علي الإزعاج) الذين استطاعوا تحقيق المعادلة الصعبة في توفير فيلم تكاملت عناصره ومفرداته لترضي النقاد والجمهور - ولم يحدث هذا منذ عقود- إذ أعلن العديد من النقاد والمتلقين المتابعين للسينما العالمية أن الفيلم مقتبس عن أكثر من فيلم عالمي أبرزه (العقل الجميل) للمخرج رون هوارد للفنان راسل كرو .. وسواء كان الفيلم مقتبسا أو كتبه الشاعر الموهوب أيمن بهجت قمر فالسيناريو جاء محكماً بدرجة جعلتنا موقنين من هذا الجهد الذي بذله السيناريست في دراسة وتفهم طبيعة المرض النفسي (الفصام الهذائي) الشيزوفرينيا«schizophreni» .استطاع أيمن بهجت قمر صياغة هذا المرض في سيناريو جيد لم تفلت منه تفصيلة واحدة، وصاغ المخرج خالد مرعي هذا السيناريو في صورة رائعة أعلنت عن مخرج موهوب أحكم توظيف أدواته في ثاني تجاربه في الإخراج بعد فيلم (تيمور وشفيقة) الذي أشار- مجرد إشارة- إلي مولد مخرج جيد ولكن السيناريو بضعفه وفكرته المتهالكة الساذجة لم تظهر براعته، لنجده في (آسف علي الإزعاج) يقدم لنا فيلما جيدا أظهر قدراته وتمكنه بعد نجاحه كمونتير للعديد من الأفلام .. ويكتمل مثلث الفيلم ببطله الفنان أحمد حلمي الذي استطاع بذكائه وحسن اختياراته أن يتجاوز نفسه وأبناء جيله، فخرج من أسر الفارس ليقفز إلي أصعب أنواع الدراما وهي (السيكودراما) التي تظهر قدراته علي الأداء وتوظيفه أدواته في تجسيد شخصية مركبة، سيطر بها علي جمهوره الذي ذهب إليه معتقدا أنه سيواصل الضحك، لكن الجمهور أصيب بصدمة لكنه سرعان ما أفاقه حلمي بروعة أدائه لدرجة جعلت المتلقين يصمتون تماما في النصف الثاني من الفيلم، فجاء تأثيره عليهم لدرجة التوحد والتعاطف لدرجة البكاء حين بلغ ذروة إجادته في مشهد المكاشفة الذي جمعه مع أمه دون الوقوع في فخ الميلودراما الفجة.لم يخل الفيلم من مناقشة قضايا مهمة رغم أن تيمته الأساسية تدور حول الشاب المصاب بالفصام ودون الدخول في تفاصيل أسباب وأعراض المرض الذي أجاد السيناريست توظيفها في السيناريو، إلا إنه لم ينس تناول إشكاليات وهموم تمس شبابنا الذي يتعرض لقهر وضغط في غياب الأب الحنون الذي يعطف ولا يقهر ويطحن كما يفعل رئيس الجمهورية الذي ظنه بطل الفيلم - ربما كان بديلا عن فقدانه لأبيه - فبدلا من احتضانه وفتح بابه لاستقباله وتفهم مشكلته نراه يضع علي بابه حراسه الغلاظ الذين لا يتفاهمون إلا بالرصاص، كما حدث بالفعل في أكثر من واقعة راح ضحيتها شباب ظن في رئيس الجمهورية الأب /الملاذ الأخير والعصا السحرية لحل مشاكله أو علي الأقل الاستماع لها، فكان مصيره رصاص الحراس الذين ينفذون أوامر الأمن الحارس للراعي والذي يحرّمه علي الرعايا.. كما تناول مشكلة البطالة وتهكم علي قطار العمل الذي صاغته كتيبة الدعاية الفجة .استطاع السيناريو أن يصور مشكلة إهدار العقول الفذة صاحبة الإختراعات وإضطرارها للجوء الي الخارج وإن جاءت هذه القضية مبتورة وغير مكتملة مما يشي بتدخل من الرقابة خاصة بعدما أعلن رئيس البطل عن تبني مؤسسة «مصر للطيران» مشروعه، وحتي ان كانت الرقابة لم تتدخل فاغلب الظن أن الرقابة الذاتية لدي ايمن هي التي تدخلت، وأثرت علي الفيلم بشكل سلبي فكانت من أضعف أجزائه، بالإضافة الي النهاية السعيدة بتوفيق كل شيء وكان الأفضل أن يتحلي بهجت بالشجاعة ويترك النهاية مفتوحة . كل من شارك في الأداء أجاد بشكل لافت ويحسب للمخرج اختيارهم بدءا بالفنان الكبير محمود حميدة الذي عودنا علي مستوي راقٍ يثبت دائما انه وصل للنضج خاصة بعد دورية الرائعين في (بحب السيما) و(ملك وكتابة) فكانت مشاركته في الفيلم إضافة حقيقية ومحسوبة للمخرج، والموهوبة منة شلبي التي ما زالت مملوءة بالطاقة ولديها الكثير أجادت في تفهم طبيعة الشخصية وقدمتها بتقمص أمتعنا، والقديرة دلال عبد العزيز، رغم مساحة دورها الصغيرة، إلا أنها قدمت شخصية الأم المكلومة بفقدان زوجها وحرصها علي ابنها وشقائها بمرضه دون الوقوع في فخ الميلودراما .. أما مفاجأة الفيلم فكان محمد شرف الذي خرج من أسر التنميط الذي سجنه في شخصية البلطجي أو المجرم للمرة الثانية بعد فيلم (كباريه)، نراه الشاب المقهور المحبط ليعبر عن جيل بأكمله، فكان أداؤه هادئا مؤثراً لفت اليه الانظار رغم عدد المشاهد القليلة التي ظهر فيها . التصوير لأحمد يوسف اكتشاف جديد رغم عمله بالتصوير منذ عدة سنوات إلا أنه هنا في أول أفلامه كمدير للتصوير استطاع تقديم صورة أشبه باللوحات الطبيعية خاصة في مشاهد البحر، كما جاءت لقطاته موحية في نقل الإثارة والحلم والغموض بتفهم كبير، جاءت الموسيقي لعمرو إسماعيل لتضيف إلي عناصر الفيلم جمالاً وإحساساً بالمشاعر والغوص في الشخوص لدرجة التوحد، فكانت تعبر عن الأحداث وتعلق عليها بنعومة تتفق مع صوت آلتي«البيانو» و«الكمان» فاستطاع توظيفهما في الحزن والفرح بنفس القوة، كما جاءت أغنية الجميلة شيرين في سياق الأحداث لتعبر عن حال البطل، فتم توظيفها بإجادة تامة.. وجاء الديكور لمحمد أمين موفقا خاصة في اختيار الألوان حتي إظهار الفوضي بغرفة البطل جاء بحساب. خالد مرعي استطاع صنع فيلم راق ..فيحسب له إختيار الممثلين وإبداعهم .. وحركة الكاميرا والكادرات التي استخدمها واختياره أماكن جديدة كما في ورش المطار التي لم تتناوله السينما إلا مرة واحدة في فيلم (غروب وشروق)، أما المونتاج للمخرج فكان - رغم صعوبته وحساسيته - موفقا إلا أن النصف الأول من الأحداث كان الإيقاع بطيئا .. في النهاية استطاع خالد مرعي إبداع فيلم يعتمد علي إحساسه كمونتير ومخرج واعد ننتظر منه الكثير فتحية له ولحلمي وكل من شارك في الفيلم ومرحبا بالإزعاج إذا كان مثل ازعاجكم الجميل
No comments:
Post a Comment