Wednesday, December 17, 2008

الوعد فيلم يسألك السؤال الصعب
كتب : وائل لطفي
المصدر: روزاليوسف

مثل مرثية شعرية حزينة لقدر الإنسان ومصيره على الأرض، يأتى «وعد» وحيد حامد، هل يفر الإنسان من قدره؟ هل يغيره؟ أم يستسلم له؟ أم يواجهه؟ أسئلة متعددة، والإجابة تختلف من إنسان لآخر، وبحسب إجابة كل إنسان عن السؤال يتحدد شكل حياته ومصيره، وفى الأغلب الأعم تتشابه إجابات ملايين البشر، حيث يختارون الإجابة الآمنة وهى الاستسلام للقدر، والذين يختارون إجابة مختلفة فقط هم الذين يستحقون أن تروى حكايتهم وأن يتحولوا إلى أبطال «دراميين» وبطل «الوعد» واحد من هؤلاء، على أنه رغم هذا بطل عصرى لا مبال، وإن شئت لغة هذه الأيام فهو بطل «مهرتل» يواجه قدره بلا مبالاة وينتصر فى معركته دون معاناة كبيرة إن لم يكن فى المواجهة نفسها، ففى الاختيار إنه يختار بسهولة الإجابة التى تنتصر لإنسانيته رغم أن ملايين البشر يضيعون أعمارهم دون مقدرة على اختيار الإجابة الصحيحة، أو دون قدرة على اختيار أى إجابة على الإطلاق! فى كثير من أعمال وحيد حامد ستلمح دائما صراعا مزدوجا أو صراعين متجاورين، الصراع الأول بين وحيد حامد الكاتب الذى يحمل هما فلسفيا يطل برأسه من حوارات أبطاله ومشاهد سيناريوهاته، وبين وحيد الكاتب الجماهيرى الذى يرغب فى أن يبقى واقفا على أرض الواقع، وأن تصل شخصياته وأفكاره للجمهور بشكل مباشر وواضح وبسيط، ينعكس على إيرادات شباك التذاكر. أما الصراع الثانى والمجازى فهو دائما ما يكون بين «ورق» وحيد حامد وعالمه وبين مخرج فيلمه، الذى عادة ما يكون من اختيار وحيد نفسه، فى «سوق المتعة» مثلا قدم وحيد حامد فكرة فلسفية أشبه بمقطوعة موسيقية لـ «موزار»، لكن المخرج الكبير سمير سيف اختار أن يوزعها على طريقة «شعبان عبدالرحيم»، ولا أعتقد أن هذا أثار غضب وحيد حامد، وفى الأغلب فإن أحد «الوحيدين» يستعين بالمخرج ضد «وحيد الآخر»، أو إنه بدهاء يترك الفرصة لمخرجه أن يحسم الصراع بين «وحيد» الذى يرغب أن يحلق فى سماء الفن و«وحيد» الذى يرغب أن يقف على الأرض وبين الجمهور وأمام شباك التذاكر. فى «الوعد» كان الأمر مختلفا، واستطاع المخرج المثقف محمد ياسين أن يهبط ويعلو مع المستويات المختلفة للنص السينمائى، وأن يقدم قصة سينمائية ذات مستويين مختلفين فى التلقى وفى الحكى أيضا، وهى سمة الأعمال الكبيرة عموما، على أن هذه الصيغة المحبوكة لم تخل من هنات متعددة بعضها بسيط، وبعضها ليس كذلك، ولعل أهم هذه الهنات مشهد النهاية الفعلية أو المشهد قبل الأخير، حيث يصل «البوليس» ليلقى القبض على «السحراوى» رمز السلطة المطلقة والقدر الذى يتحكم فى حياة الآخرين، والذى يقرر البطل أن يتحداه ولا يستسلم له، والحقيقة أن وصول «البوليس» كان فكرة لا تخلو من سذاجة، خاصة أنها ضد قانون اللعبة وقانون «الحدوتة» التى نتابعها منذ البداية، حيث نتابع مواجهة بين إنسان فرد وبين سلطة أكبر، هو يقرر أن يواجه السحراوى الذى هو رمز لسلطات متعددة ومختلفة، ويفعل هذا وعليه إما أن ينتصر بمفرده أو ينهزم بمفرده، إما أن يغير قدره أو أن يسحقه هذا القدر، وهى لعبة خطرة ليس من بين الاختيارات المطروحة فيها «الاستعانة بصديق» أو بالبوليس، والحقيقة أن هذا المشهد كان أشبه بختام سيمفونية تعزفه فرقة «حسب الله»، لكن مشهد النهاية الفعلى الذى يقف فيه الأبطال الثلاثة: «روبى وآسر ياسين وأحمد عزمى» فى مواجهة القاتل الجديد الذى أرسله السحراوى من سجنه كان رائعا. ولعل أهم ما فى فيلم «الوعد» أنه عودة لما يمكن تسميته مجازا «سينما المؤلف»، رغم أن التعبير يطلق عادة لوصف الأفلام التى يكتبها مخرجوها، لكننا هنا إزاء حالة تناغم هائلة بين النص السينمائى وبين رؤية المخرج، الذى بذل مجهودا كبيرا ليروى قصته بنعومة وسلاسة وليقدم فيلما يتسم بقدر كبير من الأناقة الفكرية والبصرية، وليقدم امتدادا أصيلا ومخلصا لمدرسة الراحل الكبير عاطف الطيب الذى قدم مع وحيد حامد مجموعة من أهم أفلام السينما المصرية، وهو ما يكمله محمد ياسين مع وحيد حامد، الذى قدم معه «دم الغزال» ثم «الوعد». على مستوى التمثيل أكسبت السنون محمود ياسين تألقاً خاصاً يضعه فى مكانة خاصة بين كبار ممثلى السينما المصرية، وهى مرحلة بدأها مع شريف عرفة فى فيلم «الجزيرة» وأكدها مع محمد ياسين فى فيلم «الوعد»، والحقيقة أنها مرحلة تعادل عشرات الأفلام التى قدمها فى السبعينيات والثمانينيات، لأنه فى هذه المرحلة يدخل إلى القلب مباشرة. أما أحمد عزمى فى دور «الحانوتى القبطى» جرجس فلتاووس فهو «مجرم» تمثيل حقيقى، وهو بهيئته وأدائه وفهمه للشخصية كان سيد المشاهد التى ظهر فيها دون منازع، وهو بشكل عام موهبة كبيرة لم ينل ما يستحق من فرص حتى الآن، ويبقى بطلا الفيلم «روبى» و«آسر ياسين» وهما فرسا رهان الفيلم، حيث تملك روبى قدرة عالية على الوصول لقلب المشاهد، وهى تملك قدرة عالية على أن تجعلك تصدقها رغم أنها لم تمتلك كل أدوات الممثل المحترف بعد، لكنها تشى بإمكانات تمثيلية واعدة للغاية، خاصة أنها تمثل فى منطقة تخلو من المنافسة على مستوى السن وعلى مستوى طبيعة الأدوار وعلى مستوى الإمكانات أيضا! وقد كانت إضافة حقيقية للدور الذى لعبته. ولعل المفارقة الحقيقية أن بطل الفيلم «آسر ياسين» رغم الكاريزما الهائلة التى يتمتع بها، ورغم أنه يملك كل مواصفات «البطل» الدرامى كان أقل أبطال الفيلم تألقا، وقد أدى الشخصية من منطقة الغموض وعدم الاكتراث بما يدور من صراع كبير يقوده «محمود ياسين» لفهمه، وقد كان هذا الغموض هو مفتاح الشخصية فى البداية، لكن هذا الأداء استمر مع «آسر» حتى نهاية الفيلم، وهو ربما كان تعبيرا عن موقف جيله كله من العالم والصراعات التى تدور فيه، لكن الموقف النفسى والفكرى شىء وأدوات الممثل المحترف شىء آخر، لكنه فى كل الأحوال بطل قادم بقوة ويمتلك أدوات يندر أن تجتمع كلها فى بطل آخر، وهو رغم الملاحظة على أدائه، كان اختيارا مناسبا ووجها جديدا تم تقديمه فى الوقت المناسب، موسيقى «تامر كروان» أدركت البعد الأعمق للفيلم، فجاءت موسيقاه معبرة وخاصة لأقصى درجة، وإن تشابهت فى «تيمتها» الأساسية مع موسيقى «أرض الخوف» لراجح داود، أما الديكور لرامى دراج فقد كان أحد الأبطال الرئيسيين للفيلم، خاصة ديكور الفيللا التى لم تكن سوى «جنة» مؤقتة، ويلتقى فيها بطلا الفيلم عادل وفرحة، أو «آسر وروبى»، وأعتقد أن فيلم «الوعد» يقدم رامى دراج كواحد من أهم مهندسى الديكور فى السينما المصرية فى سنواتها المقبلة. يبقى أن «الوعد» فيلم ممتع على المستوى الفنى و«محفز» على المستوى الفكرى، حيث يضعك وحيد حامد من خلال «الحدوتة» البسيطة أمام اختياراتك، ويذكرك أن عليك أن تختار، وهو الاختيار الذى نظل دائما نهرب منه منذ الميلاد وحتى الممات، وهو أيضا يجعلك تسأل نفسك: ما هو «الوعد»؟! هل هو الوعد الذى منحه بطل الفيلم لمحمود ياسين بألا يتورط فى القتل أم هو «الوعد والمكتوب» الذى يعيشه الإنسان منذ ميلاده وحتى مماته ولا يستطيع أن يفر منه أبدا مهما حاول؟! غالبا هو «الوعد والمكتوب»!



No comments: